سورة غافر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


ولما كان كل من الناس يدعي أنه لا يعدل عن الدليل، وكان كل أحد مأموراً بالنظر في الدليل مأموراً بالإنابة لما دل عليه من التوجه إلى الله وحده، كان ذلك سبباً في معرفة الكل التوحيد الموجب لاعتقاده القدرة التامة الموجب لاعتقاد البعث، فكان سبباً لإخلاصهم، فقال تعالى مسبباً عنه: {فادعوا} وصرح بالاسم الأعظم تدريباً للمخلصين على كيفية الإخلاص فقال: {الله} أي المتوحد بصفات الكمال دعاء خضوع وتعبد بعد الإنابة بعد النظر في الدليل {مخلصين له الدين} أي الأفعال التي يقع الجزاء عليها، فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصاً اجتهد في تصفية أعماله، فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص.
ولما كانت مخالفة الجنس شديدة لما تدعو إليه من المخاصمة الموجبة للمشاققة الموجبة لاستطابة الموت قال تعالى: {ولو كره} أي الدعاء منكم {الكافرون} أي الساترون لأنوار عقولهم، والإخلاص أن يفعل العباد لربهم مثل ما فعل لهم فلا يفعلوا فعلاً من أمر أو نهي إلا لوجهه خاصة من غير غرض لأنفسهم بجلب شيء من نفع أو ضر، وذلك لأنه سبحانه فعل لهم كل إحسان من الخلق والرزق ولأنفسهم خاصة لا لغرض يعود عليه- سبحانه وما أعز شأنه- بنفع ولا ضر، فلا يكون شكرهم له إلا بما تقدم، لكنه لما علم سبحانه بأن أباح لهم العمل لأجل الرجاء في ثوابه والخوف من عقابه، ولم يجعل ذلك قادحاً في الإخلاص، قال الاستاذ أبو القاسم القشيري: ولولا إذنه في ذلك لما كان في العالم مخلص.
ولما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه وتشويقاً إليه بقوله ممثلاً بما يفهمه العباد مخبراً عن مبتدأ محذوف تقديره: هو {رفيع الدرجات} أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات.
ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في {سأل} بصيغة منتهى الجموع {المعارج} ثم قال ممثلاً لنا بما نعرف: {ذو العرش} أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان.
ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال: {يلقي الروح} أي الذي تحيى به الأرواح حياة الأشباح بالأرواح {من أمره} أي من كلامه، ولا شك أن الذي يلقي ليس الكلام النفسي وإنما هو ما يدل عليه، وهو الذي يقبل النزول والتلاوة والكتابة ونحو ذلك. ولما كان أمره عالياً على كل أمر، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {على من يشاء} ولما كان ما رأوه من الملوك لا يتمكنون من رفع كل من أرادوا من رقيقهم، نبه على عظمته بقوله: {من عباده} وأشار بذلك مع الإشارة إلى أنه مطلق الأمر لا يسوغ لأحد الاعتراض عليه، ولو اعترض كان اعتراضه أقل من أن يلتفت إليه أو يعول بحال عليه إلى توهية قولهم {أو أنزل عليه الذكر من بيننا} [ص: 8] بأنه عليه السلام المخلص في عباده لم يمل إلى شيء من أوثانهم ساعة ما ولا صرف لحظة عن الإله الحق طرفة عين، فلذلك اختصه من بينهم بهذا الروح الذي لا روح في الوجود سواه، فمن أقبل عليه وأخلص في تلاوته والعمل بما يدعو إليه والبعد عما ينهى عنه صار ذا روح موات يحيي الأموات ويزري بالنيرات. قال الرازي: قال ابن عطاء: حياة القلب على حسب ما ألقي إليه من الروح، فمنهم من ألقي إليه روح الرسالة، ومنهم من ألقي إليه روح النبوة، ومنهم من ألقي إليه روح الصديقية والكشف والمشاهدة، ومنهم من ألقي إليه روح العلم والمعرفة، ومنهم من ألقي إليه روح العبادة والخدمة، ومنهم من ألقي إليه روح الحياة فقط، ليس له علم بالله ولا مقام مع الله، فهو ميت في الباطن، وله الحياة البهيمية التي يهتدي بها إلى المعاش دون المعاد- انتهى. وبالجملة فكل من هذه الأرواح منطق لمن ألقي عليه مطلق للسانه ببديع بيانه وإن اختلف نطقهم في بيانهم، وتصرفهم في عظيم شأنهم.
ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم، أتبع ذلك بما يزيده بياناً من ثمرة الإرسال فقال: {لينذر} أي الذي اختصه سبحانه بروحه، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعه درجاته وسفول درجات غيره {يوم التلاق} أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره لكونه يلتقي فيه الأولون والآخرون وأهل السماوات والأرض ولا حيلة لأحد منهم في فراق غريمه بغير فصل على وجه العدل، وإلى هذا المعنى أشارت قراءة ابن كثير باثبات الياء في الحالين وهو واضح جداً في إفراد حزبي الأسعدين والأخسرين فإنه تلاق لا آخر له، وأشارت قراءة الجمهور بالحذف في الحالين إلى تلاقي هذين الجزئين: أحدهما بالآخر فإنه- والله أعلم- قل ما يكون حتى يفترقا بالأمر بكل إلى داره: الأسعدين بغير حساب، والأخسرين لا يقام لهم وزن، وأشار الإثبات في الموقف دون الوصل إلى الأمر الوسط وهي لمن بقي لقاءهم يمتد إلى حين القصاص لبعضهم من بعض.
ولما أفهم ذلك عدم الحجاب من بيوت أو جبال، أو أشجار أو تلال، أو غير ذلك من سائر ذوات الظلال، نبه عليه في قوله معيداً ذكر اليوم لأنه أهول له: {يوم هم} أي بظواهرهم وبواطنهم {بارزون} أي برزوا لا ساتر فيه أصلاً.
ولما كان من المعلوم عندهم إنما لا ساتر له معلوم، أجرهم على ما يعهدون، وعبر بعبارة تعم ذلك فقال مستأنفاً في جواب من ظن أنه قد يخفي عليه شيء عن الساتر معظماً الأمر بإظهار الاسم الأعظم: {لا يخفى على الله} أي المحيط علماً وقدرة {منهم شيء} أي من ذواتهم ولا معانيهم سواء ظهروا أو استتروا في هذا اليوم وفي غيره.
ولما كان من العادة المستمرة أن الملك العظيم إذا أرسل جيشه إلى من طال تمردهم عليه وعنادهم له فظفروا بهم وأحضروهم إليه أن يناديهم مناديه وهم وقوف بين يديه قد أخرستهم هيبته وأذلتهم عظمته بلسان قاله أو لسان حاله بما يبكهم به ويوبخهم ويؤسفهم على ما مضى من عصيانهم ويندمهم قال: {لمن الملك اليوم} أي يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد، فيجيبون بلسان الحال أو المقال كما قال بعض من قال:
سكت الدهر طويلاً عنهم *** قد أبكاهم دماً حين نطق
{لله} أي الذي له جميع صفات الكمال، ثم دل على ذلك بقوله: {الواحد} أي الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسمة ولا غيرها {القهار} أي الذي يقهر من يشاء متكرراً وصفه بذلك دائماً أبداً لما ثبت من غناه المطلق بوحدانيته الحقيقة.
ولما أخبر عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب، أخبرهم بما يزيد رعبهم، ويبعث رغبهم ورهبهم، وهو نتيجة تفدره بالملك قال: {اليوم تجزى} أي تقضى وتكافأ، بناه للمفعول لأن المرغب المرهب نفس الجزاء ولبيان سهولته عليه سبحانه {كل نفس} لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت من إهمال أحد منهم.
ولما كان السياق للملك والقهر يقتضي الجزاء واعتماد الكسب الذي هو محط التكليف بالأمر والنهي ويقتضي النظر في الأسباب، لأن ذلك شأن الملك، قال معبراً بالباء والكسب: {بما} أي بسبب ما {كسبت} أي عملت، وهي تظن أنه يفيدها سواء بسواء بالكيل الذي كالت يكال لها.
ولما كانت السببية مفهمة للعدل، فإن الزيادة تكون بغير سبب، قال معللاً نافياً مثل ما كانوا يتعاطونه من ظلم بعضهم لبعض في الدنيا: {لا ظلم} أي بوجه من الوجوه {اليوم} ولما كان استيفاء الخلائق بالمجازاة أمراً لا يمكن في العادة ضبطه، ولا يتأنى حفظه وربطه، فكيف إذا قصدت المساواة في مثاقيل الدر فما دونها:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل
ضافت النفوس من خوف الطول، فخفف عنها بقوله معلماً أن أموره على غير ما يعهدونه، ولذلك أكد وعظم باظهار الاسم الأعظم: {إن الله} أي التام القدرة الشامل العلم {سريع الحساب} أي بليغ السرعة فيه، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير، ولا يشغله شأن عن شأن لأنه لا يحتاج إلى تكلف عد، ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب، ولا شيء، فكان في ذلك ترجية للفريقين وتخويف، لأن الظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب، والمؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب.


ولما تم هذا على هذا الوجه المهول، وكان يوم القيامة له أسماء تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله، منها يوم البعث وهو ظاهر، ومنها يوم التلاق لما تقدم، ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه خسارته، ومنها يوم الآزفة لقربه وسرعة أخذه، وكان كأنه قيل خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم: وأمن ممن ألقينا هذا الروح الأعظم من أمرنا فأنذرهم ما مضى من يوم التلاقي وما عقبناه به، عطف عليه قوله زيادة في بيان هوله إعلاماً بأنه مع ثبوته وثبوت التلاقي فيه قريب تحذيراً من تزيين إبليس للشهوات وتقريره بالتسويف بالتوبة: {وأنذرهم} أي هؤلاء المعرضين إعراض من لا يجوز الممكن {يوم الآزفة} أي الحالة الدائبة العاجلة السريعة جداً مع الضيق في الوقت وسوء العيش لأكثر الناس، وهي القيامة، كرر ذكرها الإنذار منها تصريحاً وتلويحاً تهويلاً لها وتعظيماً لشأنها.
ولما ذكر اليوم، هول أمره بما يحصل فيه من المشاق فقال: {إذ القلوب} أي من كل من حضره. ولما كان هذا الرعب على وجه غريب باطن، عبر ب {لدى} فقال: {لدى الحناجر} أي حناجر المجموعين فيه إلا من شاء الله، وهي جمع حنجور وهي الحلقوم وزناً ومعنى، يعني أنها زالت عن أمكانها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج وصارت مواضعها من الأفئدة هواء، وكانت الأفئدة معترضة كالشجا لا هي ترجع إلى مقارها فيستريحوا ولا تخرج فيموتوا.
ولما كان الحديث- وإن كان في الظاهر عن القلوب- إنما هو عن أصحابها، جمع على طريقة جمع العقلاء، وزاده حسناً أن القلوب محل الكظم، وبها صلاح الجملة وفسادها، وقد أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال: {كاظمين} أي ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً، ساكتين مكروبين، قد انسدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم. ولما كان من المعلوم أن ذلك الكرب إنما هو للخوف من ديان ذلك اليوم، وكان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك اليوم والشفاعات، قال مستأنفاً: {ما للظالمين} أي العريقين في الظلم منهم {من حميم} أي قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم مزيل لكروبهم، قال ابن برجان: والحميم: الماء الحار الناهي في الحرارة، سمي القريب به لأنه يحمي لقريبه غضباً، والغضب حرارة تعرض في القلب تخرج إلى الوجه فيحمر وتنتفخ الأوداج فيستشيط غيظاً {ولا شفيع يطاع} أي ليس لهم شفيع أصلاً لأن الشفيع يعلم أنه لو شفع ما أطيع فهو لا ينفع، وقد يشفع في بعضهم بعض المقربين لعلامة فيهم يحصل بها اشتباه يظن بهم أنهم ممن يستحق الشفاعة فينبه على أنهم ليسوا بذلك، فيبرأ منهم.
ولما كانت الشفاعة إنما تقع وتنفع بشرط براءة المشفوع له من الذنب إما بالاعتراف بما نسب إليه والإقلاع عنه، وإما بالاعتذار عنه، وكان ذلك إنما يجري عند المخلوقين على الظاهر، ولذلك كانوا ربما وقع لهم الغلط فيمن لو علموا باطنه لما قبلوا الشفاعة فيه، علل تعالى ما تقدم بعلمه أن المشفوع له ليس بأهل لقبول الشفاعة فيه لإحاطة علمه فقال: {يعلم خائنة} ولما كان السياق هنا للابلاغ في أن علمه تعالى محيط بكل كلي وجزئي، فكان من المعلوم أن الحال يقتضي جمع الكثرة، وأنه ما عدل عنه إلى جمع القلة إلا للاشارة إلى أن علمه تعالى بالكثير كعلمه بالقليل الكل، عليه هين، فالكثير عنده في ذلك قليل فلذا قال: {الأعين} أي خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهي الإشارة بالعين، قال أبو حيان: من كسر وغمز ونظر يفهم منه ما يراد- انتهى.
وذلك يفعل بفعل ما يخالف الظاهر، ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر، أتبعه أخفى ما في الباطن فقال: {وما تخفي الصدور} أي عن المشفوع عنده وغير ذلك.
ولما كان العفو عن الظالم الذي لا يرجع عن ظلمه نقصاً، لكونه لا حكمة فيه، عبر بالاسم الأعظم في جملة حالية فقال: {والله} أي والحال أن المتصف بجميع صفات الكمال {يقضي بالحق} أي الثابت الذي لا يصح أصلاً نفيه، فلو قضى فيمن يعلم أنه ليس بأهل للشفاعة فيه بقبول الشفاعة لنفى الحق وأثبت الباطل فخالف ذلك الكمال {والذين يدعون} أي الظالمون- على قراءة الجماعة، وأيها الظالمون- على قراءة نافع وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالخطاب للمواجهة بالإزراء. ولما كانت المراتب دون عظمته سبحانه لا تنحصر ولا يحتوي عليها كلها شيء، أثبت الجار فقال: {من دونه} أي سواه، ومن المعلوم أنهم خلقه فهم دون رتبته لأنهم في قهره {لا يقضون بشيء} من الأشياء أصلاً، فضلاً عن أن يقضوا بما يعارض حكمه، فلا مانع له من القضاء بالحق، فلا مقتضى لقبول الشفاعة فيمن يعلم عراقته في الظلم أنه لا ينفك عنه.
ولما أخبر أنه لا فعل لشركائهم، وأن الأمر له وحده، علل ذلك بقوله مرهباً من الخيانة وغيرها من الشر، مرغباً في كل خير، مؤكداً لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكاراً ذلك: {إن الله} عبر به لأن السياق لتحقير شركائهم وبيان أنها في غاية النقصان {هو} أي وحده. ولما ذكر ما هو غيب، وصفه بأظهر ظاهر فقال: {السميع} أي لكل ما يمكن أن يسمع {البصير} أي بالبصر والعلم لكل ما يمكن أن يبصر ويعلم، فلا إدراك لشركائهم أصلاً ولا لشيء غيره بالحقيقة، ومن لا إدراك له ولا قضاء له، فثبت أن الأمر له وحده، فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فإن كل أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيشفع، فيشفعه الله تعالى فيفصل سبحانه بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره: جنته أو ناره، روى الشيخان: البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة، فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فذكر سؤالهم أكابر الأنبياء، وكل واحد منهم يحيل على الذي بعده إلى أن يقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم حين يأتونه: أنا لها، فينطلق فيسجد تحت العرش» وهو مروي عن غير أبي هريرة عن أنس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكن لم أر فيه التصريح بالشفاعة العامة بعد رفع رأسه صلى الله عليه وسلم من السجود إلا فيما رواه البخاري في الزكاة من صحيحه في باب «من سأل الناس تكثراً» عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم» وكذا فيما رواه أيو يعلى في مسنده فقال: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة من أصحابه فقال: «إن الله تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فذكر النفخ فيه للموت ثم للبعث ثم ذكر الحشر» وهو حديث طويل جداً إلى أن قال: «ثم يقفون موقفاً واحداً مقدار سبعين عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماً وتعرقون إلى أن يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم أو يبلغ الأذقان، فتضجون وتقولون: من يشفع لنا إلى ربنا يقضى بيننا، فتقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلاً، فتأتون آدم فتطلبون ذلك إليه فيأبى فيقول: ما أنا بصاحب ذلك، ثم يستقربون الأنبياء نبياً نبياً كلما جاؤوا نبياً أبى عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى تأتوني، فأنطلق حتى آتي الفحص فأخر ساجداً فقال أبو هريرة: يا رسول الله! ما الفحص؟ قال: قدام العرش- حتى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني فيقول لي: يا محمد! فأقول: نعم يا رب! فيقول: ما شأنك- وهو أعلم فأقول: يا رب وعدتني فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال: قد شفعتك أنا آتيكم فأقضي بينكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً فنزل أهل السماء الدنيا مثل من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثل من نزل من الملائكة، ومثل الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام، والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهو اليوم على أربعة- إلى أن قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يهتف بصوته فيقول: يا معشر الجن والإنس! إني قد أنصت لكم من يوم خلقتكم إلى يوم يومكم هذا أسمع قولكم، وأبصر أعمالكم، فانصتوا لي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول الله عز وجل: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون} [يس: 60-63]- أو بها تكذبون- شك أبو عاصم، {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} [يس: 59] فتسمى النار وتجثو الأمم وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فيقضي بين خلقه» فذكره وهو طويل جداً، ثم ذكر الصراط وبعض الشفاعات الخاصة في أهل الجنة، فذكر دخولهم الجنة ثم أنهم يشفعون في بعض أهل النار إلى أن قال: «ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع» إلى أن قال: «ثم يقول الله عز وجل: بقيت أنا وأنا أرحم الراحمين. فيدخل الله يده في جهنم فيخرج منها لا يحصيه غيره» وروى ابن حبان في صحيحه- قال المنذري: ولا أعلم في إسناده مطعناً- عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول إبراهيم عليه السلام يوم القيامة. يا رباه، فيقول الرب جل وعلا: يا لبيكاه، فيقول إبراهيم: يا رب حرقت بني- فيقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة أو شعيرة من الإيمان» وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وأحمد بن منيع: «يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول: يا أبة! أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم، فيقول: نعم، فيقول خذ بازرتي، فيأخذ بازرته، ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض بعض الخلق، فيقول: يا عبدي! ادخل من أي أبواب الجنة شئت، فيقول: أي ربي، وأبي معي فإنك وعدتني أن لن تخزيني، فيعرض عنه ويقضي بين الخلق ويعرضهم ثم ينظر إليه فيقول: يا ابن آدم ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي ربي وأبي معي فإنك قد وعدتني أن لن تخزيني قال: فيمسخ الله أباه ضبعاً أمذر أو أمجر» شك أبو جعفر أحد رواة ابن منيع «فيأخذ بأنفه فيقول: أبوك هو، فيقول: ما هو بأبي، فيهوي في النار» وهو في البخاري في أحاديث الأنبياء وتفسير الشعراء بلفظ: «يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آذر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام: ألم أقل لك: لا تعصني، فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى عن أبي الأبعد، فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم عليه السلام: انظر ما تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ- وهو ذكر الضبعان- متلطخ فيؤخذ بقوامه فيلقى في النار» وروى أبو يعلى الموصلي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة فتقطعه النار يريد أن يدخله الجنة، قال: فينادى أن الجنة لا يدخلها مشرك، ألا إن الله قد حرم الجنة على كل مشرك قال: فيقول: أي رب! أبي، فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة فيتركه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه إبراهيم عليه السلام»، وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: «إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيدة وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} إلى قوله: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118]» ورواه الترمذي والنسائي بنحوه، ومن نحو ما قال عيسى عليه السلام قول إبراهيم عيله السلام كما حكاه الله عنه {فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} وروى مسلم في الإيمان من صحيحه والنسائي في التفسير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فأنه مني} الآية- وقال عيسى عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي وبكى فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك»، وللشيخين في الحوض والفتن ومسلم في فضل النبي صلى الله عليه وسلم عن سهل بن سعد وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا فرطكم على الحوض، من مر على شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم» زاد أبو سعيد رضي الله عنه: فأقول: «إنهم مني- فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي» ولمسلم وابن ماجه- وهذا لفظه- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكر خطبته في الحج ثم قال: «ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم، ولا تسودوا وجهي، ألا وإني مستنقذ أناساً ومستنقذ مني أناس فأقول: يا رب: أصحابي أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ولفظ مسلم: «أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواماً ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا رب! أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ولمسلم عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بين ظهراني أصحابه: «إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم، فوالله ليقطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب! مني ومن أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم» وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! تعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لغيركم تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء، ولتصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول يا رب هؤلاء أصحابي، فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ وفي رواية: بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج من بيني وبينهم رجل، فقال: هلم؛ فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم، فقال: إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم. أي ضوالها- أي الناجي قليل، وفي رواية لمسلم في الوضوء: ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً» قال المنذري: والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.


ولما وعظهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار، وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار، أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة من تتبع الديار والاعتبار، بما كان لهم فيها من عجائب الآثار، من الحصون والقصور وسائر الأبنية الصغار والكبار، فقال موبخاً ومقرراً عاطفاً على ما تقديره ألم يتعظوا بما أخبرناهم به من الظالمين الأولين من تبعهم من الإهلاك في الدنيا المتصل بالشقاء في الأخرى: {أو لم يسيروا} ولما كان المتقدمون من الكثرة والشدة والمكنة بحيث لا يعلمه إلا الله ولا يقدر آدمي على الإحاطة بمساكنهم، نبه عليه بقوله: {في الأرض} أي أي أرض ساروا فيها وعظتهم بما حوت من الأعلام.
ولما كان السير سبباً للنظر قال: {فينظروا} أي نظر اعتبار كما هو شأن أرباب البصائر الذين يزعمون أنهم أعلاهم. ولما كانت الأحوال المنظور فيها المعتبر بها شديدة الغرابة، نبه عليها بقوله: {كيف} أي أنها أهل لأن يسأل عنها، ونبه على أن التصاقها بهم في غاية العراقة بحيث لا انفكاك لها بقوله: {كان عاقبة} أي آخر أمر {الذين كانوا} أي سكاناً للأرض عريقين في عمارتها. ولما كان المنتفع بالوعظ يكفيه أدنى شيء منه، نبه على ذلك بالجار فقال: {من قبلهم} أي قبل زمانهم {كانوا} ولما كان السياق لمجادلة قريش لإدحاض الحق مع سماعهم لأخبار الأولين، كانوا كأنهم ادعوا أنهم أشد الناس، فاقتضى الحال تأكيد الخبر بأن الأولين أشد منهم، فأكدر أمرهم فيما نسبه إليهم معبراً بضمير الفصل بقوله: {هم} أي المتقدمون، لما لهم من القوى الظاهرة والباطنة.
ولما كان مرجع المجادلة القوة لا الكثرة، وقال استئنافاً في جواب من لعله يقول: ما كان أمرهم؟: {أشد منهم} أي هؤلاء- قرأه ابن عامر {منكم} بالكاف كما هو في مصحف أهل الشام على الالتفات للتنصيص على المراد {قوة} أي ذواتاً ومعاني {و} أشد {آثاراً في الأرض} لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليها ألوف من السنين، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن.
ولما كانت قوتهم ومكنتهم سبباً لإعجابهم وتكبرهم على أمر ربهم ومخالفة رسله، فكان ذلك سبب هلاكهم قال: {فأخذهم الله} أي الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة، ولما لم يتقدم شيء يسند إليه أخذهم، قال مبيناً ما أخذوا به: {بذنوبهم} أي التي سببت لهم الأخذ ولم يغن عنهم شيء من ذلك الذي أبطرهم حتى عتوا به على ربهم ولا شفع فيهم شافع {وما كان لهم} أي من شركائهم الذين ضلوا بهم كهؤلاء ومن غيرهم {من الله} أي عوض المتصف بجميع صفات الكمال، أو كوناً مبتدئاً من جهة عظمته وجلاله، وأكد النفي بزيادة الجار فقال: {من واق} أي يقيهم مراده سبحانه فيهم، لا من شركائهم ولا من غيرهم، فعلم أن الذين من دونه لا يقضون بشيء، ويجوز أن تكون {من} الأولى ابتدائية على بابها تنبيهاً على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدئ من جهته سبحانه لهم وقاية لم تكن لهم باقية بخلاف من عاقبه الله عقوبة تأديب، فإن عذابه يكون سبب بقائه لما يحصل له منه سبحانه من الوقاية.
ولما ذكر سبحانه أخذهم ذكر سببه بما حاصله أن الاستهانة بالرسول استهانة بمن أرسله في قوله: {ذلك} أي الأخذ العظيم ولما كان مقصود السورة تصنيف الناس في الآخرة صنفين، فكانوا إحدى عمدتي الكلام، أتى بضميرهم فقال: {بأنهم} أي الذين كانوا من قبل {كانت تأتيهم} أي شيئاً فشيئاً في الزمان الماضي على وجه قضاه سبحانه فأنفذه {رسلهم} أي الذين هم منهم {بالبينات} أي الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضوح الأمر بحيث لا يسع منصفاً إنكارها.
ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب، عبر بالماضي فقال: {فكفروا} أي سببوا عن إتيان الرسل عليهم الصلاة والسلام الكفر موضع ما كان إتيانهم سبباً له من الإيمان.
ولما سبب لهم كفرهم الهلاك قال: {فأخذهم} أي أخذ غضب {الله} أي الملك الأعظم. ولما كان قوله: {فكفروا} معلماً بسبب أخذهم لم يقل: بكفرهم، كما قال سابقاً: بذنوبهم، لإرشاد السباق إليه. ولما كان اجتراؤهم على العظائم فعل منكر للقدرة، قال مؤكداً لعملهم عمل من لا يخافه: {إنه قوي} لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {شديد العقاب}.
ولما كان ذلك عجباً لأن البينات تمنع من الكفر، فكان تقدير لمن ينكر الإرسال على هذه الصفة: فلقد أرسلناهم كذلك، وكان موسى عليه السلام من أجل المرسلين آيات، عطف على ذلك تسلية ونذارة لمن أدبر، وإشارة لمن استبصر قوله: {ولقد} ولفت القول إلى مظهر العظمة كما في الآيات التي أظهرها بحضرة هذا الملك المتعاظم من الهول والعظم الذي تصاغرت به نفسه وتحاقرت عنده همته وانطمس حسه، فقال: {أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة {موسى بآياتنا} أي الدالة على جلالنا {وسلطان} أي أمر قاهر عظيم جداً، لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه {مبين} أي بين في نفسه مناد لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر جداً، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول ألى أذاه مع ما له من القوة والسلطان {إلى فرعون} أي ملك مصر. ولما كان الأكابر أول من يتوجه إليه الأمر لأن بانقيادهم ينقاد غيرهم قال: {وهامان} أي وزيره. ولما كان من أعجب العجب أن يكذب الرسول من جاء لنصرته واستنقاذه من شدته قال: {وقارون} أي قريب موسى عليه السلام {فقالوا} أي هؤلاء ومن تبعهم، أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في التيه، فدل ذلك على أنه لم يزل قائلاً به، لأنه لم يتب منه {ساحر} لعجزهم عن مقاهرته، ولم يقل سحار لئلا يتوهم أحد أنه يمدحه بالبراعة في علم السحر فتتحرك الهمم للإقبال عليه للاستفادة منه وهو خبر مبتدأ محذوف، ثم وصفوه بقولهم: {كذاب} لخوفهم من تصديق الناس له، فبعث أخصّ عباده به إلى أخسّ عباده عنده ليقيم الحجة عليه، وأمهله عندما قابل بالتكذيب وحلم عنه حتى أعذر إليه غاية الإعذار.
ولما أجمل أمره كله في هاتين الآيتين، شرع في تفصيله فقال مشيراً إلى مباردتهم إلى العناد من غير توقف أصلاً التي أشار إليها حذف المبتدأ والاقتصار على الخبر الذي هو محط الفائدة: {فلما جاءهم} أي موسى عليه السلام {بالحق} أي بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً {من عندنا} على ما لنا من القهر، فآمن معه طائفة من قومه {قالوا} أي فرعون وأتباعه {اقتلوا} أي قتلاً حقيقياً بإزالة الروح {أبناء الذين آمنوا} أي به فكانوا {معه} أي خصوهم بذلك واتركوا من عداهم لعلهم يكذبونه {واستحيوا نساءهم} أي اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن.
ولما كان هذا أمراً صاداً في العادة لمن يؤمن عن الإيمان وراداً لمن آمن إلى الكفران، أشار إلى أنه سبحان خرق العادة بإبطاله فقال: {وما} أي والحال أنه ما كيدهم- هكذا كان الأصل ولكنه قال: {كيد الكافرين} تعميماً وتعليقاً بالوصف {إلا في ضلال} أي مجانبة للسدد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم، بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أولياء الله، ما حفر أحد منهم لأحدم منهم حفرة مكر إلا أركبه الله فيها.
ولما أخبر تعالى بفعله بمن تابع موسى عليه السلام، أخبر عن فعله معه بما علم به أنه عاجز فقال: {وقال فرعون} أي أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه عندما علم أنه عاجز عن قتله وملاّه ما رأى منه خوفاً وذعراً، دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً عنه، موهماً أن آله هم الذين يردونه عنه، وأنه لولا ذلك قتله: {ذروني} أي اتركوني على أيّ حالة كانت {أقتل موسى} وزاد في إيهام الأغبياء والمناداة على نفسه عند البصراء بالفضيحة بقوله: {وليدع ربه} أي الذي يدعوه ويدعي إحسانه إليه بما يظهر على يديه من هذه الخوارق، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه الأمر صعب جداً لأنه كان منهم من يوهي أمره بأنه لا يؤثر ما هو فيه شيئاً أصلاً تقرباً إلى فرعون، وإظهاراً للثبات على متابعته {إني أخاف} أي إن تركته {أن يبدل دينكم} أي الذي أنتم عليه من نسبة الفعل إلى الطبيعة بما يدعو إليه من عبادة إلهه.
ولما ألهبهم بهذا الكلام إلى ممالأتهم له على موسى عليه السلام، زاد في ذلك بقوله: {وأن يظهر} أي بسببه- على قراءة الجماعة بفتح حرف المضارعة {في الأرض} أي كلها {الفساد} وقرأ المدنيان والبصريان وحفص بالضم إسناداً إلى ضمير موسى عليه السلام وبنصب الفساد أي بفساد المعائش فإنه إذا غلب علينا قوي على من سوانا، فسفك الدماء وسبى الذرية، وانتهب الأموال، ففسدت الدنيا مع فساد الدين، فسمى اللعين الصلاح- لمخالفته لطريقته الفاسدة- فساداً كما هو شأن كل مفسد مع المصلحين، وقرأ الكوفيون ويعقوب {أو أن} بمعنى أنه يخاف وقوع أحد الأمرين: التبديل أو ظهور ما هو عليه مما سماه فساداً، وإن لم يحصل التبديل عاجلاً فإنه يحصل به الوهن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6